Khashoggi

عامين على مقتل خاشقجي، لم تخضع حتى الآن شركة برامج التجسس ولا الحكومة السعودية للمساءلة

يصادف يوم الجمعة 2 أكتوبر ذكرى مرور سنتين على مصرع جمال خاشقجي الصحافي السعودي والنقاد البارز للنظام السعودي، بعد أن قُتل بوحشية داخل قنصلية المملكة السعودية في إسطنبول على يد مجموعة من الأعوان السعوديين. منذ ذلك الحين، أشار تقرير  الأمم المتحدة على نحو مباشر الى مسؤولية  السعودية “لارتكاب القتل العمد“، وأبدت قلقها ة بشأن ممارسات “الرقابة داخل الدولة وخارجها” وضرورة تأمين سلامة المُقرّبين من خاشقجي. ودفع الغضب العالمي إزاء هذه الجريمة أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي إلى اتخاذ إجراءات في الصدد، وعززت الجهود الجارية في الاتحاد الأوروبي ووزارة الخارجية الأمريكية وغيرها والرامية إلى ضمان تحميل شركات برامج التجسس المسؤولية وعدم تحقيقها لأرباح من وراء انتهاكات حقوق الإنسان. 

ولكن لم تف أيّ من هذه الإجراءات بالغرض. إذ لم نر أي مساءلة حقيقة على خلفية قتل خاشقجي، وواصلت مجموعة “إن إس أو” منذ ذلك الوقت مشاركتها في سلسلة من الانتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان، وهي الشركة التي يُشتبه في أن أدواتها الرقابية قد استُخدمت لاستهداف خاشقجي. ولا تزال الأنظمة الاستبدادية في مختلف أنحاء العالم تستخدم هذه الأدوات لاستهداف المعارضين والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان ومراقبتهم وتكميم أفواههم. وتواصل مجموعة “إن إس أو” الاستفادة من ذلك، هذا وقد تبيّن أن أشهر برامج التجسس التي تنتجها المجموعة وهو برنامج ‘بيغاسوس’ (Pegasus) قد أصاب أكثر من 100 جهاز يملكه ناشطو المجتمع المدني الذين وقع استهدافهم بهدف التجسس عليهم. 

وفي هذا المنشور، نستعرض ما حصل لخاشقجي ونقدم التسلسل الزمني لانتهاكات حقوق الإنسان التي تورطت فيها مجموعة “إن إس أو”، قبل جريمة قتل خاشقجي وبعدها. ونستعرض كذلك تفاصيل الجهود التي تبذلها منظمات المجتمع المدني والحكومات في مختلف أنحاء العالم لتحميل مرتكبي هذه الجرائم المسؤولية. كما نكرر ونجدد دعوتنا للمنظمات الدولية والحكومات والمجتمع الدولي برمته إلى تحرّي أعمال مجموعة “إن إس أو” وغيرها من الشركات (مثل ساندفاين Sandvine) التي تجني الأموال من إتاحة أدوات تُسهّل ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، تهدد في العديد من الحالات استقرار المنظومة الديمقراطية.

الاشتباه في تورط “إن إس أو” في مقتل خاشقجي 

مجموعة “إن إس أو” هي شركة إسرائيلية تنتج برامج تجسس وكانت فيما سبق على ملك الشركة المالية الأمريكية Francisco Partners، التي تصدرت العناوين الرئيسية للأخبار بعد مشاركتها في عمليات حجب الانترنت في بيلاروس. وأصبحت “إن إس أو” الآن جزءا من شركة Novalpina Capital ومقرها في المملكة المتحدة. 

وتشير أبحاث أجراهاCitizen Lab في جامعة تورنتو إلى أن “إن إس أو” قد باعت برنامج التجسس ‘بيغاسوس’ الذي أنتجته للسعودية، والتي استخدمته للتجسس على مساعدي خاشقجي. وتوصل الباحثون في مجال الأمن بعد معاينتهم لهاتف عمر عبد العزيز، صديق خاشقجي وناقد معروف للنظام السعودي، إلى أن هاتفه قد تعرض للقرصنة. وتواصل عبد العزيز وخاشقجي فيما بينهما عن طريق الهاتف وتبادلوا الأحاديث عبر واتساب بشأن خطط نشاطهم على وسائل التواصل الاجتماعي ضد النظام السعودي الاستبدادي، ظانّين أنها أحاديث سرّية. وبعد مرور بضعة أشهر على قرصنة الهاتف، أي يوم 2 أكتوبر 2018، اغتيل خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول. وأفاد عبد العزيز علنا بتورط مسؤولين سعوديين في جريمة قتل خاشقجي، مشيرا الى أن قرصنة محادثاته السرية معه قد كان لها دور محوري في عملية الاغتيال. 

وتشير التقارير إلى أن الحكومة السعودية اليوم تعد واحدة من  العملاء المفضلين لدى مجموعة “إن إس أو”؛ فهي ليست دولة غنية فقط ا وإنما قادرة على العمل دون الخضوع لأي رقابة قضائية مستقلة. ومن بين الأشخاص الذين استهدفتهم السعودية في حملتها الرقابية باستخدام برنامج التجسس بيغاسوس موظف في منظمة العفو الدولية، والحقوقي السعودي يحيى عسيري، والسياسي السعودي الساخر غانم المصارير، والصحفي لدى صحيفة نيويورك تايمز بن هوبارد المعروف بتقاريره عن السعودية وولي العهد الأمير محمد بن سلمان.  

التسلسل الزمني: انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتُكبت باستخدام برنامج التجسس التابع لشركة “إن إس أو” قبل مقتل خاشقجي وبعده

تتعدد الأدلة التي تثبت أن مجموعة “إن إس أو” مستمرة في تزويد الأدوات التي تُستخدم في انتهاكات حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، وغالبا ما يُفلت مرتكبوها من العقاب. وفيما يلي لمحة عن الحوادث الموثقة لاستهدافات “إن إس أو” قبل اغتيال خاشقجي وبعده. 

استُخرج هذا الرسم البياني باستخدام منصة إنفوغرام (Infogram). يُرجى التحقق من الإعدادات الإضافية التي يعتمدها المتصفح الذي تستخدمونه للاطلاع على الرسم البياني على أحسن وجه.

العدالة لخاشقجي، لم تتحقق بعد

يُعتبر القتل خارج نطاق القضاء جريمة بموجب القانون الدولي، ويُعرض مرتكبه للملاحقة القضائية من قِبل أي دولة تلجأ إلى “الولاية القضائية العالمية”. ولكن، تشير تحقيقات الأمم المتحدة في مقتل خاشقجي إلى أن هذه القضية لم تعرف سوى محاولات محدودة لتحقيق العدالة إزاء من خططوا للجريمة ومن ارتكبوها. 

ولا يزال المسؤولون السعوديون الكبار الذين تورطوا في قتل خاشقجي أحرارا طلقاء، بمن فيهم محمد بن سلمان والمستشار الملكي السابق سعود القحطاني الذي عُرف بترويعه للنشطاء والمعارضين السياسيين السعوديين على شبكة الإنترنت. وبدلا من إحقاق العدالة، أصدرت محكمة سعودية فيما يشبه “المسرحية العدلية” أحكاما ضد ثمانية أعوان على مستوى وظيفي مُتدنّ، تتراوح بين 24 سنة سجنا إلى الحكم بالإعدام، وآلت هذه الأحكام في وقت لاحق إلى نقضها أو العفو عن المحكومين

وفي سياق منفصل، شرعت تركيا في محاكمة عدد من السعوديين المشتبه في أنهم شاركوا في الجريمة، ورفعت مبادرة Open Society Justice  قضية بدورها بموجب قانون حرية الحصول على المعلومة الأمريكي للمطالبة بالكشف على الأقل على المعلومات التي لم تُنشر بشأن الأفراد المشاركين في عملية القتل.

وبالتزامن مع هذه التطورات، ظهرت عدة محاولات لتحميل مجموعة “إن إس أو” مسؤولية مشاركتها في انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية وغيرها. ولم تُتوج أي من هذه المحاولات بالنجاح بعد، وإن كان العديد منها لا يزال قيد النظر. 

في سنة 2018، رفع مواطن قطري وصحفيون وناشطون مكسيكيون تباعا قضيتين ضد “إن إس أو” في إسرائيل وقبرص،وذلك بسبب استهدافهم  عن طريق برنامج التجسس التابع للشركة. وكشفت القضايا عن وثائق ورسائل إلكترونية تناقض ما دأبت الشركة على تأكيده بأنها غير مسؤولة عن أي رقابة غير قانونية أجرتها الحكومات. 

وقام عمر عبد العزيز في نفس السنة برفع قضية في إسرائيل ضد “إن إس أو” متهما الشركة بقرصنة هاتفه للتجسس على محادثاته مع خاشقجي. وبالاستناد إلى وثائق المحكمة، يعتزم محامو الادعاء إثبات “الدور الكبير لعملية القرصنة في قرار قتل خاشقجي”.

وبين سنتي 2018 و2019، قادت منظمة العفو الدولية حملة لالغاء رخصة التصدير لمجموعة “إن إس أو” في إسرائيل، وذلك أولا عن طريق السعي إلى حث وزارة الدفاع على إبطال الرخصة ثم رفع قضية أمام محكمة تل أبيب. وباءت كلتا المحاولتين بالفشل.

ورفع معارض سعودي آخر، غانم المصارير، قضية ضد الحكومة السعودية سنة 2019 لاستهدافه باستخدام برنامج بيغاسوس التابع لمجموعة “إن إس أو”. وعلى غرار خاشقجي، لطالما كان المصارير ناقدا للنظام السعودي والعائلة الملكية.

ومن بين القضايا التي رُفعت مؤخرا ضد “إن إس أو”، ولعلها أكثر القضايا الواعدة، قضية رفعتها شركة واتساب في الولايات المتحدة الأمريكية لاستهداف خوادم الشركة التكنولوجية بكاليفورنيا لغرس برنامج التجسس بيغاسوس في هواتف أكثر من ألف مستخدم للتطبيق، في انتهاك لشروط خدمة واتساب، والقانون المعمول به في الولايات المتحدة الأمريكية وفي كاليفورنيا. وحكمت محكمة الناحية بكاليفورنيا بالسماح بمتابعة القضية، ولكن “إن إس أو” قدمت استئنافا لعناية محكمة الدائرة 9 في الولايات المتحدة الأمريكية مدعية أنها لا تتحمل المسؤولية القانونية لكونها كانت فقط تتبع أوامر حكومات أجنبية تقضي بقرصنة أجهزة مستخدمي الشبكة عن طريق برنامج التجسس. وفي حال خسرت “إن إس أو” الاستئناف، ستُنقل القضية إلى مرحلة الاستكشاف، وهو ما قد يكشف تفاصيل مُنتظرة بشدة عن عمليات “إن إس أو” ومدى درايتها بالاعتداءات التي تُرتكب باستخدام برنامجها للتجسس، بما في ذلك الاستهداف المُحتمل لخاشقجي. 

وتفيد التقارير بأن “إن إس أو” خضعت أيضا للتحقيق من قبل مكتب التحقيق الفدرالي الأمريكي فيما يتعلق بشبهة قرصنة أجهزة مقيمين وشركات في الولايات المتحدة الأمريكية وجمع معلومات استخباراتية عن حكومات. ولكن، لا توجد معلومات عما آلت إليه هذه التحقيقات إلى حد الآن. 

سعي مجموعة “إن إس أو” إلى تلميع سجلها الفظيع في انتهاك حقوق الإنسان

منذ مقتل خاشقجي، لم تكتف “إن إس أو” بتحقيق المزيد من الأرباح عن طريق تسهيل انتهاكات حقوق الإنسان في العالم، ولكنها أيضا استخدمت هذه الأموال لتعيين أشهر الخبراء الدوليين كأكبر مستشاريها لتلميع صورتها أمام الرأي العام. فعلى سبيل المثال، تمكنت “إن إس أو” من تعيين المسؤولة السابقة في وزارة الأمن القومي الأمريكية والأستاذة في جامعة هارفرد جولييت كيّام، والوزير السابق للأمن القومي توم ريدج، والدبلوماسي الفرنسي السابق، جيرارد آرود، على الرغم من أن ثلاثتهم قد تراجعوا عن العمل مع “إن إس أو” وحُذفت أسماؤهم في كنف التكتّم من موقع الشركة. ومن المرجح أن تواصل “إن إس أو” بحثها عن الخبراء الذين يحظون بالاحترام في مجال الأمن الإلكتروني والدبلوماسية والقانون الدولي للاستعانة بهم كمستشارين لمساعدتها على تلميع سجلها الفظيع على مستوى حقوق الإنسان ومساعدتها على التنصّل من المسؤولية.

كما سعت “إن إس أو” إلى استغلال أزمة كوفيد-19 لتحسين سمعتها، على الرغم من تواصل التجاوزات، وذلك عن طريق تطوير تطبيق لتقصي المخالطين لرصد انتشار المرض والتنبؤ به. وكان هذا التطبيق محفوفا بالمشاكل المتعلقة باحترام الخصوصية، بما في ذلك عدم خضوع قاعدة بياناته للحماية وغياب كلمة سر لاستعماله. وبدا أن تطوير التطبيق كان ذريعة لتوسيع نطاق الرقابة بشكل مكثف أكثر منه سعيا صادقا من “إن إس أو” للمساعدة على الحد من جائحة فيروس كورونا. 

حان الوقت لاتخاذ خطوات ملموسة

خلال السنتين الماضيتين، وجهت أكسس ناو عدة دعوات لإدانة ممارسات الرقابة غير القانونية التي تقوم بها مجموعة “إن إس أو”، بما في ذلك ما يُرجح أنه استهداف لخاشقجي. وبمناسبة الذكرى الثانية لمقتل جمال خاشقجي، نجدد دعواتنا التي أصبحت اليوم أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.

  • المطالبة بمساءلة المتورطين في جريمة قتل خاشقجي، بما في ذلك أي شركات أو مسؤولين حكوميين شاركوا في مراقبة خاشقجي ومساعديه مما أدى إلى مصرعه. 
  • المطالبة بتحقيق جدي ومستقل في ممارسات الرقابة التي تضطلع بها مجموعة “إن إس أو”، بما في ذلك الممارسات التي يديرها زبائن المجموعة، وتحميلها مسؤولية انتهاكات حقوق الإنسان التي باتت أسهل بفضل هذه الممارسات في مختلف أنحاء العالم. 
  • الدعوة إلى وقف تجارة تكنولوجيا الرقابة إلى أن يتم وضع ضمانات صارمة لحماية حقوق الإنسان لتنظيم العمل بهذه الأدوات المُتطفلة.
  • دعوة الحكومات إلى تطبيق رقابة صارمة على الصادرات بما في ذلك إجراء تقييم إجباري لتأثير الصادرات على حقوق الإنسان في إطار عملية بذل العناية الواجبة، ووضع معايير إجبارية للشفافية والإفصاح. 
  • دعوة الحكومات إلى وضع إطار مساءلة مُحكم وتطبيقه لضمان عدم استغلال الشركات لبيع أدوات الرقابة وغيرها من الوسائل التكنولوجية التي تسهل الانتهاكات لزبائن يُشتبه في أن لهم سوابق في انتهاك حقوق الإنسان. 
  • دعوة بقية الأعضاء المنتمين للمجلس الاستشاري لمجموعة “إن إس أو” إلى إنهاء علاقتهم بالشركة.
  • دعوة الشركات إلى وضع حقوق الإنسان في صلب عمليات اتخاذ قراراتها، وذلك ليس فقط عن طريق السياسات الأخلاقية وإدراج الخبراء البارزين ضمن مجالسها الاستشارية إنما عن طريق ما يلي:
    • بلورة سياسة مُحكمة لحقوق الإنسان تُؤكد مجددا على التزام الشركة باحترام حقوق الإنسان وفقا للمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان؛
    • الامتناع عن إتاحة أدوات تقنية متطفلة للحكومات التي تملك سجلا حافلا بانتهاكات حقوق الإنسان؛
    • إجراء عمليات بذل العناية الواجبة للتحقق من احترام حقوق الإنسان وإجراء عمليات لتقييم التأثير عليها على نحو دوري، ويشمل ذلك عمليات الاستعراض التي يتعين أن يضطلع بها أطراف ثالثة مستقلة وذات خبرة، من أجل تحديد وتجنب المخاطر التي قد تقوض حقوق الإنسان والتي قد تؤدي إليها الأدوات والخدمات التي تقدمها الشركة؛
    • ضمان إجراء الترتيبات والعملية في كنف الشفافية الكاملة، ويشمل ذلك نشر تقارير الشفافية عن مطالب الحكومة للحصول على معلومات عن مستخدمي الخدمات وتطبيق سياسات الشركة؛ 
    • نشر منهجية الشركة للعلن، استنادا إلى أفضل الممارسات، وفتح المجال لانتقادها؛
    • التشاور مع المجتمع المدني، والمجتمعات المحلية المتضررة، وغيرها من الجهات الناقدة عند وضع هذه العمليات وتطبيقها.
  • دعوة الشركات والحكومات إلى ضمان إتاحة سبل الانتصاف القانونية الناجعة لفائدة ضحايا الرقابة التي استهدفتهم. 

في يونيو 2020، بلغ عمر عبد العزيز تحذير رسمي من الشرطة الكندية بأنه يُشتبه في استهدافه من النظام السعودي مع وجود “معلومات موثوقة بشأن إمكانية وُجود مخطط لإيذائه”. وعليه، لا ينبغي أن تنتظر المنظمات الدولية والحكومات اغتيالا آخر لكبح انتشار الوسائل التكنولوجية الرقابية وتطويرها وتصديرها لتستخدمها حكومات كأداة لانتهاك حقوق الإنسان.